![]()
كانت "ساعة الدم" تشير إلى الواحدة والنصف ظهيرة الخامس والعشرين من آب 2012، عندما بدأت أصوات بكاء الأطفال والنساء تتعالى في أزقة داريا وأحيائها مترافقة مع أصوات إطلاق الرصاص الكثيف في أنحاء المدينة، وحينها كان مجموعة من المقاومين المصابين في "دار للجرحى" يترقبون مصيرهم، فلم يعد بإمكانهم الدفاع عن أنفسهم أو عمن حولهم، ومن بينهم الشاب "كمال شحادة" الذي أصيب أثناء التصدي لقوات النظام وهي تحاول اقتحام أطراف المدينة، وأدت إصابة الشاب العشريني إلى تلف في أمعائه وتهتك في العظم الحرقفي.
وروى شحادة لـ"زمان الوصل" كيف بدأ جيش النظام وشبيحته يحشدون لاقتحام "داريا" بعد فراغهم من اقتحام "معضمية الشام" المجاورة، وكيف استمرت محاولاتهم طوال شهر تقريبا حتى تمكنوا أخيرا من دخول المدينة، بعد حملة همجية بالصواريخ والبراميل المتفجرة وآلاف القذائف، انطلقت من معظم الثكنات المحيطة بالمدينة، وأسفرت عن وقوع مئات الجرحى والضحايا، فضلا عن اعتقال مئات المدنيين وهم يحاولون الفرار من المدينة للنجاة بأنفسهم، ووقتها تواردت أنباء عن تنفيذ النظام "إعدامات ميدانية" بحق العشرات من هؤلاء الفارين.
في غرفة ضيقة لا تضم أبسط شروط الحياة كان المصاب "كمال شحادة" يعيش مع عدد من رفاقه الجرحى، ومنهم شاب من حمص أصيب في معركة السبينة ( جنوب دمشق) بشظايا قذيفة أفقدته عينيه، وشاب فلسطيني نازح من الحجر الأسود أصيب في معارك القدم، وثالث كان جسده مليئاً بالشظايا، فيما تعرض الرابع قد تعرض آخر لبتر في يده اليمنى.
"شحادة" الذي تعافى بعد سنوات من إصابته ويعيش اليوم في ريف إدلب، أكد أن أعداد المصابين بجراح خطرة من نزلاء دار الجرحى كانت حينها كبيرة؛ ما استدعى توزيعهم على عدة بيوت أو مراكز، تجنباً لوقوع خسائر كبيرة في حال استهداف النظام للدار.
وهنا تذكر محدثنا كيف إن إحدى مجموعات الجرحى كانت في ملجأ، وكيف تم اكتشاف هؤلاء من قبل قوات النظام، وجرى إعدامهم بشكل جماعي مع الطاقم الطبي.
واستعاد "شحادة" مشاهد إعدام قوات النظام للجرحى، وهي مشاهد مروعة حصلت قُبيل المجزرة الكبرى، ففيما كان بعض الأهالي يحاولون إسعاف أولادهم الجرحى تم إعدام الجميع (الجرحى ومن يسعفونهم وذويهم) على الحواجز، ومنهم شخص من آل حبيب كان يحاول إسعاف ابنه بسيارته وعند وصوله إلى أول حاجز أعطاه ضابط الحاجز ورقة مطوية طالبا منه عدم فتحها، ثم أمره بالسير، وكان مضمون الورقة الإيعاز لضابط الحاجز القادم بقتل الأب وابنه، وهو ما وقع بالفعل.
أثناء وجود الشبان المصابين داخل "دار الجرحى" وسط حالة من الخوف والترقب، سمعوا طرقات على الباب وعندما فتحوه فوجئوا بشاب يلهث ويخبرهم أن قوات النظام دخلت إلى الحي الذي تقع فيه الدار، طالبا منهم الخروج والنجاة بأنفسهم وحماية الأهالي من انتقام قوات النظام.
وتابع محدثنا: خرجنا أنا ورفاقي من المكان مكابرين على جراحنا وآلامنا، وكان أهالي المنطقة قد اجتمعوا في ساحة أمام "الثانوية الشرعية" في داريا، وعرضوا على الجرحى عدة خيارات، فإما أن يلجؤوا إلى مبنى غير مكتمل الإكساء أمام المدرسة، أو يختبئوا داخل المصعد الكهربائي المعطل أو داخل الحمامات، ولكن الرأي استقر على أن يبقى الجرحى بين الأهالي داخل الملجأ، وحينها استعان الأهالي المحاصرون بحيلة تمويهية فألبسوا المقاومين المصابين ثيابا نسائية من نقاب ومانطو وقفازات، فلم تعد ثيابهم الملطخة بدم الجراح ظاهرة، وزيادة في التمويه أعطت النسوة مصاغهن للمصابين، حتى أن إحداهن أعطتني ابنها الرضيع لأحمله بين يدي، فيما ناولتني سيدة ستينية بطاقتها الشخصية لإبرازها عند التفتيش.
كان الجو داخل الملجأ مشحونا بالتوتر والهلع وانتظار الموت في كل لحظة، في حال اكتشاف قوات النظام للمقاومين الجرحى بالذات، لكن الأمور مضت بسلام، وخرج شبيحة النظام من الملجأ بعد ساعة من التفتيش دون أن يلفت نظرهم شيء.
لكن نجاة "شحادة" ورفاقه مع معظم الأهالي المحصورين في بناء "الثانوية الشرعية" كان استثناء، ففي ذلك اليوم شهدت داريا أكبر مجزرة ارتكبها النظام بحق أهلها وسكانها، فعلى سبيل المثال اقتحم شبيحة النظام وعساكره جامع "أبو سليمان الداراني" وأعداموا أكثر من 110 أشخاص كانوا فيها، وارتكبوا مجزرة مشابهة في "جامع الرحمن"، ونفذوا إعدامات متفرقة داخل الأبنية السكنية، كان من ضحاياها 9 أشخاص من أقارب "شحادة".
وذهبت تقديرات ناشطين إلى أن النظام قتل في مجزرة "داريا" الكبرى نحو 1250 شخصا، بينهم 115 طفلا وأكثر من 75 امرأة خلال أيام، فضلا عن مئات الجرحى والمفقودين.
وأكد "شحادة" أن قوات النظام لم تكتف بقتل الناس بالرصاص، بل عمدت إلى ذبح بعضهم بالسكاكين أو حرقهم، وفق لشهادات ناجين قالوا إن الشبيحة كانوا يعمدون إلى تجميع الإطارات الضخمة في هذا المكان أو ذاك ثم يضعون من اعتقلوه وكبلوه داخلها قبل يرشوا الوقود فوق الإطار ويشعلون النار به ويدحرجونه ليزيد اشتعاله.
وختم "شحادة" موضحا أنه بقي في المدينة المنكوبة بالمذبحة حتى بداية الشهر الثاني من عام 2013، قبل أن يخرج منها بسبب تدهور وضعه الصحي، ليتوجه من بلدة إلى أخرى حتى وصل إدلب، حيث أجرى 4 عمليات جراحية، وما إن تماثل للشفاء تقريبا حتى أصيب بانفجار لغم؛ أدى إلى بتر قدمه اليمنى.
فارس الرفاعي - زمان الوصل