![]()
بعد أربع سنوات من الانتفاضة الأولى ضد الرئيس السوري بشار الأسد، تحدثنا إلى مواطنين سوريين من جميع الأطراف، من الضباط المتمردين وحتى داعمي النظام.
أبو فارس: 35 عامًا، ضابط سابق في الجيش الحر، يعيش في تركيا الآن
20-03-
2015 !!!!
ثورتنا فشلت، لقد انتهت. كل ما تبقى منها قصة سنحكيها لأبنائنا، قصة آلاف من السوريين الذين واجهوا طغيان الأسد واستبداده بتضحيات هائلة، لكن العالم أدار لهم ظهره. قصة ثورة حوربت بالمندسين والخونة والأموال الأجنبية.
على الرغم من أنني خدمت كضابط في الجيش السوري بعد تخرجي، فأنا لم أستطع منع نفسي من المشاركة في احتجاجات دمشق في مارس 2011، وسرعان ما انشققت وانضممت للجيش السوري الحر. كانت نيتنا أن نبني سوريا، لا أن نهدمها.
قوات الأمن كانت غالبًا ما تقمع المظاهرات. كنا نهرع نحو الأزقة الخلفية لدمشق باحثين عن مخبأ. الناس كانوا يفتحون أبوابهم لنا. في أحد البيوت، وجدتُ امرأة عازبة تقيم مع والدها العجوز. كنا ثلاث رجال وفتاة، لا نعرف بعضنا. المرأة أدخلتنا وأغلقت الباب بإحكام. «اذهبوا واجلسوا في غرفة أبي»، قالت هذا وهي تشير إلى حيث يرقد والدها المريض، محاطًا بكومة من الأدوية.
ثم تابعت: «فقط تظاهروا أنكم أبناء عمومتي جئتم لزيارة والدي». سوريا كلها كانت تحبنا.
الآن توقفت سوريا عن حبنا لأننا دمرناها. لكنه كان نظام الأسد الذي سحق المحتجين بوحشية. عندما تحولت الثورة للقتال المسلح، هرعت إلى بلدي حيث كنت أحتفظ بثلاث قطع من الذهب، بعت القطع لأشتري بندقية. ليس لأطلق النار على المجندين في الجيش، والذين كانوا زملائي
وفي الغالب ولم يكن لديهم الفرصة لعصيان الأوامر، ولكن لأطلق النار على الشبيحة الهمجيين، والذين كانوا يقتلون المدنيين ويدمرون ويحرقون منازلهم.
في كل مرة أطلقت فيها قذيفة صاروخية على دبابة للجيش، كنت أوشك على البكاء. هذه الدبابات كان يفترض بها أن تدافع عني وعن أطفالي، لكنني الآن يجب أن أدمرها قبل أن تقتلنا جميعا. واصلنا محاربة النظام حتى دمرت سوريا كلها، بذلنا قصارى جهدنا لنتجنب دمارًا هائلًا هكذا، لكننا فشلنا.
دَعَم الشعب السوري الثورة بكل ما يملك، أولئك الذين يملكون ذخائر أو أسلحة سلموها إلينا. بلغت ميزانية اللواء الذي قاتلتُ فيه أكثر من 25 مليون ليرة سورية شهريا، (88 ألف دولار). السوريون في المهجر كانوا يرسلون لنا المال لنحارب الأسد. في ذات الوقت، بدأنا استلام أموال من الدول العربية، خاصة الخليج.
لكن بعد ذلك بدأت تلك الدول محاولات لفرض أجنداتها الخاصة.
كنت ضابطًا في لواء ضخم في الجيش الحر. حاربت في منطقة المعظمية غرب الغوطة لأكثر من عام برفقة 3500 مقاتل مسلح. في يوليو 2012 كنا نبعد عن القصر الرئاسي ثلاث كيلومترات فقط، وكان النظام على وشك الانهيار.
لكن عندما ضربت الطائرات وسط دمشق، كان علينا الفرار إلى «داريا»، جنوب غرب العاصمة، حيث اختبأنا بين البساتين، نحفر الخنادق بمشقة بالغة، وننتظر تعزيزات من الجنود لنمضي قدمًا.
صديقي أحمد نديم كان معي في الخندق عندما أصابه قناص برصاصة في رأسه. توفي بين ذراعيّ، كان في الـ 22 من عمره. لتسع ساعات بقيت في الخندق مع جثته تحت القصف الجوي والمدفعي. ظللت أنظر في وجهه الميت، نفس الرجل الذي كان يقاسمني الطعام منذ دقائق. كنا معًا منذ بدايات الثورة في دمشق. كانت كلماته الأخيرة لي: «أرجوك تذكرني كرجل سوري مات من أجل بلده». فقط بعد منتصف الليل، عندما خفت حدة القصف، استطعنا دفنه قرب شجرة زيتون.
لاحقًا، بدأ الشعب السوري ينقلب ضد الجيش الحر. عنما بدأت داعش بقطع الرؤوس، بدأ الناس يلعنون أولئك الذين ثاروا ضد النظام. كانوا يظنون أننا السبب في قدوم هؤلاء المقاتلين المتطرفين لبلادنا.
لكننا أردنا الحرية، وليس داعش. يعتقد بعض الناس الآن أن الحياة كانت أفضل قبل الثورة، هؤلاء هم الذين لم يخسروا أيّا من أحبتهم، أو لم تفجر سياراتهم أو تدمر منازلهم.
عندما يجتمع أقاربي وأصدقائي لمشاهدة الأخبار، يقولون: »كم كانت حياتنا رائعة حقًا. نعم لم تكن لدينا كرامة، لكن كان لدينا طعام كاف».
الآن، أيجب علي أن أحافظ على الثورة من أجل الشهداء متسببًا في موت المزيد من الناس جوعا تحت قصف النظام؟ أيجب على أن أضاعف عدد الضحايا؟ أم يجب أن أتوافق مع النظام على أمل أن يأتي يوم يولد فيه طفل يقود سوريا إلى ثورة أخرى غير هذه؟ لأن هذه الثورة ملعونة من الله.
مؤخرًا غادرتُ دمشق بعد أن اشتريت هوية مزورة إزاء ثلاثين دولارًا لأعبر من حواجز الجيش على الحدود التركية. أنا الآن في تركيا، وأفضل المغادرة إلى أي بلد أخرى على العودة إلى سوريا.
الذين قاتلوا ضد النظام لن يستطيعوا التصالح معه أبدًا. لن يعودوا للذل بعد أن ذاقوا الحرية. إذا أحنيت رأسك مرة، ستظل محنية إلى الأبد.
أم ناجي: 45 عامًا، مؤيدة للنظام السوري
أعيش في منطقة نبق، شمال دمشق، مع زوجي وأبنائنا الثلاثة. بلقيس، الكبرى، تدرس الهندسة المعمارية في جامعة دمشق. ناجي، ابني الوحيد، وسحر، الصغرى، وكلاهما طالب في المدرسة الثانوية. درست الاقتصاد لكنني لم أعمل قط. كرست نفسي لتربية أطفالي. أردت لهم أن يتعلموا الموسيقى والشعر وأن يتميزوا في دراستهم. لكن حينما اندلعت الأزمة في سوريا، أصبحت مخاوفي الوطنية أكبر من مخاوفي الشخصية.
كانت هناك بعض الاحتجاجات في حيّنا في مارس 2011. ولكن الجميع هرب عندما ظهرت مدرعات الجيش. ضحكت عندما رأيت الناس يتظاهرون في الشارع وسألتهم: «علامَ تحتجون؟ سوريا بلد آمن ومطمئن». فوجث أن عمتي والعديد من أصدقائي يدعمون الاحتجاجات. قلت لهم، «أنتم تدمرون سوريا». لكنهم لم ينصتوا لي، طلبوا مني أن أسكت.
سيطر الجيش الحر على المنطقة لمدة عام تقريبا، وظل يهدد بخطف ابني ناجي إذا لم أقم بإزالة العلم السوري من سطح منزلي ولم أتوقف عن دعم النظام. لكن العلم السوري رمز مقدس بالنسبة لي. كانوا يهددون الناس لأتفه الأسباب.
الحقيقة هي أننا جميعا – قبل الانتفاضة – كانت لدينا حياة طيبة، حتى أسر الطبقة المتوسطة. كانوا يستطيعون الذهاب في عطلة، وتناول طعام لذيذ، وشراء الأدوية. أولئلك الذين كانوا يتظاهرون حصلوا على المال ليفعلوا ذلك. دُفع لهم لشراء أسلحة وقتل إخوانهم. محتجون آخرون كانوا يعانون من بعض الإحباط، فحصلوا على وعود بمستقبل أفضل، وأن يصبحوا قادة في الحكومة الجديدة.
أولئك الذين تظاهروا مدعين أنهم يريدون الحرية كانت لديهم أجندات شخصية، وليس أهدافًا وطنية. وكانوا أول من أرسلوا عائلاتهم للخارج ثم لحقوا بهم.
قدمت الحكومة للناس كوبونات للسلع الغذائية الأساسية، لكن الجيش الحر صادرها لنفسه. أصبح قادتهم أغنياء من اختطاف الشاحنات المحملة بالبضائع المتجهة إلى دمشق.
كان هناك دائما إطلاق نار. كان أعضاء الجيش الحر إذا اكتشفوا موظفًا حكوميًا ذاهبًا إلى عمله يجبرونه على العودة إلى منزله وترك وظيفته حتى لو كان راتبه هو الدخل الوحيد للأسرة. أصبح من الصعب على ابنتي أن تذهب إلى كليتها في دمشق. زوجي كان خائفا من تعرضها للاختطاف، حينها لن تكون الفدية أقل من 20 مليون ليرة سورية. (70 ألف دولار)
الجيش الحر فعل العديد من الأشياء التي جعلت الناس يكرهونه. كان لديهم كل شيء: السلاح والسيارات، وأي منزل يريدونه. جارنا الذي كان يدعم الجيش الحر بدأ يخبرنا أننا خونة للثورة ولسوريا. الجيش الحر كان يقدم الطعام والمال لمؤيديه وللأسر المشردة التي لجأت للمنطقة. كانت هناك أحياء أخرى تتضور جوعا، لكن الجيش لم يقدم لهم الدعم لأنهم كانوا يؤيديون النظام.
أقاربي في الولايات المتحدة وأوروبا طلبوا مني مغادرة البلاد، لكنني لن أفعل. لدي اعتقاد كبير بأن المرء يحيا كريمًا فقط في وطنه. الجيش النظامي دخل نبق في نوفمبر 2013. كانت هناك معارك شرسة وإطلاق نار لأكثر من شهر. بقينا في القبو نتقاسم الطعام مع جيراننا. عندما حرر الجيش السوري نبق، خرجت إلى الشوارع ورفعت العلم السوري في الميدان الرئيسي.
هذه ليست ثورة، إنها كابوس. وأنا متأكدة أننا في خلال 5 سنوات سنسترد بلدنا سوريا. كل هؤلاء الذين أتوا ليجاهدوا هنا هل يمكن أن يشرحوا لي من أجل ماذا يجاهدون؟ الرئيس بشار طبيب محترم دافع عن بلاده. قد تحمل الكثير، ولم يستسلم أبدًا.
سوريا اليوم أفضل كثيرًا مما كانت عليه خلال السنوات الثلاث الماضية. جميع اللاجئين غادروا سوريا لأنهم كانوا مطلوبين من قبل النظام. مرات عديدة قدم لهم النظام عروضا للعودة بالتنسيق مع الهلال الأحمر، لكنهم رفضوا.
في كل مرة يحرر فيها الجيش المزيد من المناطق، يتحسن الوضع الأمني. ابنتي في دمشق تستطيع الذهاب للجامعة بأمان الآن. كل شئ متوفر: الكهرباء، الماء، الخبز والفاكهة. نعم الأسعار مرتفعة لكن الأمور على ما يرام. الرئيس بشار هو الوحيد الذي سيحافظ على سوريا مهد الحضارات.
عندما كانت المعارضة هي المسيطرة، كان هناك سرقة ونهب واغتصاب وذبح. لكن عندما حررت الدولة نبق، أعدنا بناء المنطقة، زرعنا الزهور وأشجار الزيتون. شاركتُ في إعادة بناء المدارس والطرقات من خلال العمل التطوعي. أقدم الآن الدعم لأكثر من 150 عائلة. نوزع المواد الغذائية على المحتاجين في منطقتنا بالتعاون مع الهلال الأحمر. لديّ إيمان كبير بأن سوريا ستعود لتصبح مثالا للعالم، يزيد إيماني هذا كل يوم.
سارة طلال: 30 عامًا، احتجزها نظام الأسد، تعيش الآن في لبنان
على الرغم من أن عائلتي في الأصل من محافظة درعا جنوب سوريا، إلا أننا كنا نعيش في دمشق لنكون بالقرب من وظائفنا. كنت أعمل سكرتيرة في شركة خاصة براتب جيد.
في مارس 2011 كنت أشعر بتصاعد الغضب في الشارع. غمرتني المشاعر عندما رأيت الناس يرفعون اللافتات ضد الأسد في قلب دمشق. لم أستطع مقاومة رغبتي في المشاركة في بعض الاحتجاجات للمطالبة بإصلاحات سياسية. كان رد فعل النظام صادمًا للغاية، قوبلت احتجاجاتنا بإطلاق الرصاص الحي من قبل قوات الأمن.
عائلتي لم تعترض على مشاركتي في المظاهرات إذ كنا نظالب بمجرد إصلاحات. لكن قوات الأمن بدأت تضرب المتظاهرين بعنف واقتحمت المنازل بحثا عن النشطاء.
اعتبرت أنه من الأفضل لي كامرأة أن أساعد أسر الشهداء والمشردين في منطقتنا. معظم المتظاهرين والمناهضين للنظام كانوا يخصصون جزءًا من أموالهم لشراء الأغطية والأغذية والأدوية للعائلات المحتاجة.
علمت أنني كنت مرصودة من قبل قوات الأمن فقط عندما اقتحم خمسة رجال منزلنا منتصف الليل. ألقي بي في سيارة، معصوبة العينين مكبلة اليدين تم اقتيادي إلى فرع القوات الجوية للتحقيق معي منذ الـ 6 صباحا وحتى الـ 7 مساء. لحساب من تعملين؟ من الذي يحرضكم؟ من يمولكم؟ من زملائك؟ كنت أجيب أنني لا أستطيع أن أرى الناس يعانون دون أن أساعدهم.
قال المحقق: «لا، أنتِ تساعدين عائلات المسلحين الذين يختبئون في منطقتك».
أجبت: «إذا رأيت امرأة تحمل طفلًا جائعًا، هل ستساعدها أم لا؟ لم تكن جميع العائلات تتظاهر، بعضهم تركوا مناطقهم فقط بحثا عن الأمان».
أحد الظباط تفحص حساباتي على الإنترنت، وعرف أنني شاركت في بعض المظاهرات. من هنا أخذ الاستجواب مسارًا مختلفًا. أصبح التحقيق مصحوبًا بضربات الأيدي والأحذية على وجهي ورأسي. أرادوا مني أن أعترف أنني كنت مع المسلحين، لكنني صرخت: «لن أعترف بشيء لم أفعله».
على الرغم من أن الأجواء كانت مخيفة للغاية، فقدت إحساسي بالخوف. كان هناك 4 ضباط في الغرفة، يحققون معي، يلعنونني ويسبونني.
ألقي بي في زنزانة للنساء. وجباتنا كانت شرائح من الخبز والبيض المسلوق أو البطاطا الفاسدة في الصباح، وشوربا الخضار والطماطم والخيار للعشاء. كان هناك صنبور ماء وحيد في الغرفة، ولم نستحم لمدة 39 يومًا.
لم أرَ عائلتي لشهرين. بعض المعتقلات كنَّ يعدن من التحقيق ليخبرننا أنهنَّ تلقينَ تهديدات بالاغتصاب إذا لم يتعاونّ. بعض المعتقلات تم وضعهنَّ في زنازين انفرادية في قبو فرع الأمن. رأيت اثنتين أو ثلاثة من المعتقلات اللواتي تعرضن للتعذيب بالكهرباء، وخمسة أو ستة من اللواتي اختفين تماما.
بعد 40 يوما قيّد السجان يديّ وقدميّ لكنه ترك عينيّ مفتوحتين. تم نقلي بعدها مع تسعة معتقلين ذكور تعرضوا للتعذيب إلى سجن عدرا شمال شرقي دمشق. كانوا يرتدون فقط ملابس داخلية. كان للسجن ستة أجنحة ذات غرف كبيرة.
تم حبسي مع ثلاثين امرأة أخرى في غرفة وحمام. كنا ننام على الأرض بلا فرش أو غطاء، وكنا مراقبين بالكاميرات طوال الليل والنهار. بعد شهر، أتيحت لي فرصة للتواصل مع عائلتي. استدعيتُ بعدها للمثول أمام قاضٍ ووقعت على عدة وثائق، على الرغم من أنني لم أعرف ما الذي كان مكتوبًا فيها. أفرج القاضي عني بكفالة.
أطلق سراحي مع ثمانية أخريات، أمي وأختي كانتا تنتظرانني خارج السجن، ولكن ليس أخي عادل الذي كان مدرسا في الثانوية. أخبرتني أختي أن قوات الأمن اختطفت عادل من سريره واتهمته بالتطرف وحمل السلاح. في اليوم التالي، وُجدت جثة عادل أمام باب المنزل. أخي الأكبر ياسر اختطف قبل عامين، لكن الأسرة مازالت لا تملك أي معلومات عن مصيره. دفعت عائلتنا ثمنًا باهظًا للغاية في الثورة ضد نظام الأسد.
بقيت في المنزل بعدها لفترة قصيرة خشية اعتقالي مجددا. ثم تنقلت بين منازل أقاربي بحيث لا أبقى أبدا في نفس المكان لفترة طويلة. استطعت أخيرا الهرب إلى لبنان. لكنني لا أشعر بالأمان هنا لأنني لا أملك إقامة شرعية. أبقى دائما في المنزل مع زوجي الذي انتهت إقامته وكذلك جواز سفره.
قبل أسبوعين تلقينا مكالمة هاتفية تخبرنا أن هولندا قد قبلت طلبنا باللجوء لأن أختي عاشت هناك لسنوات طويلة. أمي وأختي بقيتا مع زوجات إخوتي والأطفال في دمشق. والدتي لازالت تأمل أن تسمع خبرًا عن أخي المحتجز.
نحن نؤمن أن ثورتنا لم تنته. عندما كنا نتظاهر في الشوارع، لم نكن نتوقع من النظام أن يستخدم تلك القوة المفرطة ضد شعبه. لم نتظاهر من أجل مصالح شخصية أو لنشعل الفوضى أو ننشر الإرهاب في سوريا. فقد أردنا العدل والحرية. العلويون يعيشون حياة مترفة بينما يكافح الآخرون فقط ليبقوا على قيد الحياة. نحن الآن بحاجة إلى معجزة لننتصر على الأسد.
أنا لستُ نادمة على ما فعلت. مازلت آمل أن أعود إلى سوريا يوما ما بعد أن يتمّ تحريرها، على الرغم من أنه لم يعد هناك ما يسمّى سوريا. لقد دمرت تماما.
أبو حارث: 30 عامًا، من حمص، انضم إلى «داعش» منذ سنة
الأزمة الاقتصادية في سوريا تلقي بظلالها القاتمة على أبناء الطبقة المتوسطة في حمص، أولئك الذين كانوا يكافحون من أجل البقاء في مواجهة غلاء الأسعار وارتفاع الضرائب وانخفاض دخلهم. لم يكن بإمكان الشباب الزواج قبل بلوغ الثلاثين. التمييز في الوظائف زاد من غضب المواطنين ضد الأسد، فالوظائف الحكومية يسيطر عليها العلويون على حساب الأغلبية السنية التي شعرت وكأنها تستعبد.
في المنزل، كراهيتنا تجاه النظام الطائفي العلوي كانت تزيد حدّة. والدي علمني أن ألعن النظام مذ كنت طفلًا، وكان ينتظر فرصة للتعبير عن معارضته علنًا.
كنت سعيدًا لرؤية تساقط الأنظمة بعد اندلاع ثورات تونس وليبيا ومصر واليمن. كان واضحا أن حمّى الثورة ستصل إلى سوريا، لكننا لم نتوقع أن تبدأ الانتفاضة من أهل درعا الذي كتبوا على جدران مدينتهم: «إنه دورك د. بشار». هجوم النظام على أهل درعا أخرجنا للشوارع في حمص، كان ذلك يوم 15 مارس عام 2011.
كان مسجد خالد بن الوليد التاريخي محطة انطلاق مظاهرة حمص الأولى ضد النظام السوري. كانوا حوالي 300 رجلا. البعض ينادي بإسقاط النظام ويلقي الحجارة على قوات الأمن. استخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه لتفريق المتظاهرين، واعتقلوا عددًا منهم.
بعد ثلاث أسابيع، بدأ صبر النظام ينفد؛ ليشرع في استخدام الذخيرة الحية؛ ما حول الاحتجاج السلمي إلى ثورة مسلحة. ألقي القبض عليّ في واحدة من هذه الاحتجاجات، وكثير من زملائي تعرضوا للتعذيب والقتل. خلال 30 يوما من الاعتقال في فرع الأمن في حمص، تم تعذيبي بالصعق الكهربائي والضرب. أطلق سراحي بموجب عفو يهدف إلى تهدئة الغضب الشعبي. كنت قد انضممت إلى مجموعة مسلحة صغيرة في السجن. كانوا مدربين جيدا ويتاجرون في السلاح. أيضا صورتُ أحداث العنف على هاتفي النقال في حمص وأرسلتُ لقطات لأصدقائي في الخارج لينشروها على يوتيوب.
بتمويل من مانحين خليجيين، أسَّستُ مجموعة إعلامية من 11 رجلًا مسلحًا لتوثيق جرائم النظام. التبرعات كانت ترسل على شكل مساعدات إنسانية، كنا نبيعها لنشتري معدات إعلامية وأسلحة. شاركت في العديد من المعارك حتى فرض النظام حصارًا على بابا عمرو – أحد أحياء حمص – حينها اضطر معظم السكان إلى الفرار. انضممت إلى حزب التحرير السلفي الذي كان يدعو لإقامة دولة إسلامية. تعلمتُ معهم الكثير من مهارات القتال. لكنني أيضا تابعت بإعجاب كبير صعود جبهة النصرة، وكنت منبهرًا تماما بعملياتهم الاستشهادية.
استمر الحصار لمدة عامين، كان اختبارًا صعبًا بالنسبة لنا. فقدنا من أحبائنا كُثر، وصل بنا الأمر لأكل الزواحف وجلود البقر وأوراق الشجر. حلفتُ يمين الولاء لداعش في مارس 2014. حصلت على دورة في الشريعة لمدة شهر. الدورة شملت 5 دروس يوميًا لتعليم القرآن الكريم، شروط الإسلام، قوانين «داعش» والشريعة الإسلامية. حررنا بعدها الموصل والرقة وأصبحنا دولة إسلامية حقيقة.
حياتي تغيرت تمامًا منذ انضممت إلى داعش. كنت رجلًا جاهلًا اعتاد مصادقة الفتيات. لكنني تعلمت أنه ليس من صحيح الإسلام أن تكون في علاقة مع فتاة دون أن تتزوجها. عليّ أن أتعلم الشريعة وأحارب الكافرين بدلًا من لعب كرة القدم. حياتي الآن لها هدف، ولديّ دولة أحميها.
في غضون أيام قليلة سأتزوج طبيبة مجاهدة تونسية. ساعدتُها مع كثيرين آخرين من بريطانيا، فنلدنا وباكستان أن يأتوا إلى هنا. داعش تعطي الجهاديين المال من أجل الطعام والتدفئة والإنفاق الشخصي. إذا أراد جهاديّ أن يتزوج، فإن داعش تمدّه بالمال وتدفع إيجار منزله.
النظام السوري ضعيف، لديه دبابات وطائرات، ولكن ليس لديه ما يكفي من المقاتلين. معركتنا الآن مع المجتمع الدولي والولايات المتحدة والصليبيين. نعلم أن أمريكا لا تريد للأسد أن يسقط، وإلا لكان نظامه انهار منذ الأسبوع الأول. يريدون للشعب السوري أن يقول: «لقد هزمَنا النظام، تعالوا وساعدونا». سيقولون أن الحل هو مفاوضات وتشكيل حكومة ائتلافية، حينها ستذهب كل دماء الشهداء سدى.
أنا أعمل الآن في مركز الفرقان الإعلامي. أجرينا استطلاعًا للرأي بخصوص قتل الطيار الأردني. معظم الناس في سوريا أيدوا قتله. يعلم الشعب السوري أن هذه الحملة الصليبية، وهذا التحالف الكافر الخبيث، ليس ضد داعش، وإنما ضد الإسلام.
أبو صالح: 45 عامًا، عاش في رومانيا لمدة 22 سنة، ويقدم المساعدات لسوريا
مذ كنت طالب حقوق في دمشق، لم أكن سعيدًا بالحياة تحت حكم النظام السوري وجرائم مخابراته وقوات أمنه ضد المواطنين. الحلّ الوحيد كان مغادرة سوريا، لكن الحصول على تأشيرة كان شبه مستحيل.
تحدثتُ إلى أصدقاء استقروا في رومانيا ودعوني للانضمام إليهم. كان عليّ أن أخدم في الجيش فور تخرجي، لهذا لم أنتظر الامتحانات النهائية. دفعت المال للحصول على تأشيرة سياحية، وغادرت إلى رومانيا بعد التوقيع على وثيقة أعد فيها بالعودة خلال 3 أشهر. لم أعد حتى قيام الثورة.
في رومانيا كنتُ وأصدقائي خائفين دومًا من إجبارنا على المغادرة، أو أن يؤذي النظام أهالينا في سوريا. لكننا تشجعنا بعد الثورات في البلدان العربية الأخرى، تواصلنا عبر فيسبوك وتويتر مع أشخاص داخل سوريا يستطيعون إشعال فتيل الثورة في البلاد. نظمنا مظاهرات في رومانيا والنمسا وألمانيا. تحدثنا للإعلام عن أهداف الثورة وجرائم النظام ضد الشعب السوري.
كان الهدف الدفع باتجاه ثورة سلمية، لكشف حقيقة ما كان يحدث داخل سوريا وكيف كان النظام يقمع ويعذب المتظاهرين في مراكز الاعتقال. مع أول مظاهرة انكسر الخوف من النظام، لكننا لم نتوقع من المجتمع الدولي أن يسمح للأسد بقتل شعبه.
بعد ثلاثة أشهر، قدتُ مع زملائي 4 سيارات لأكثر من 3500 كيلومترا عبر ألمانيا، النمسا، هنجاريا، رومانيا، بلغاريا وتركيا حتى نصل أخيرا إلى سوريا. قمنا بشحن الأدوات الطبية ووسائل الاتصالات الحديثة والكاميرات، كاميرات سرية تشبه الأقلام أو القبعات أو الألعاب ليستطيع المتظاهرون تصوير الجرائم دون أن ينكشف أمرهم. سلّمنا هذه الشحنات لنشطاء انتظرونا على الحدود.
لم تكن هناك تبرعات أجنبية. كنا إذا أردنا 10 آلاف دولار، فإن عددا قليلا من السوريين داخل رومانيا كان الواحد منهم يتبرع بحدود 1500 دولار. ثم كنا نشتري المعدات ونحملها إلى سوريا. بعدها فكرنا أنه من الأفضل أن نفتح مكتبًا قرب الحدود التركية السورية لنساعد في تدفق التبرعات. بعدها بدأتُ في الذهاب إلى إدلب، الرقة والقلمون بنفسي لتوزيع المساعدات.
أحضرنا سيارتيْ إسعاف من هامبورج، لكننا تعرضنا لحادث سيارة إثر إعصار قويّ في جمهورية التشيك، وغرست سيارتا الإسعاف في الثلج. استغرق رفعهما يومين، ثم مررنا من تحت جسر كانت السيارتان أعلى منه، وعلقنا مجددا.
بينما كنا نعبر الحدود، كنا نخبئ الهواتف النقالة وأجهزة الاتصالات في ملابسنا وتحت مقاعد سياراتنا التي كانت مكدسة بالملابس والأحذية والخبز. لم يكن يُسمح لنا بإدخال الأدوية، لكننا كنا نجلب بعض معدات الإسعافات الأولية والنقالات والكراسي المتحركة إلى لجان الجيش السوري الحر والثوار المحليين.
وقعت عدة شحنات في أيدي رجال الأمن، ضُربت عدة سيارات بصواريخ أو علقت في كمائن. أحيانا كانت تُفقد شاحنات محملة بأجهزة اتصالات وهواتف ثريا، إذا اعتقل السائق أو تم قتله أثناء الشحن.
استطعنا ذات مرة إرسال أكثر من 50 سيارة إسعاف مستعملة إلى سوريا. اشترينا بعضها من مجلس مدينة هامبورج، والبعض الآخر من وزارة الصحة في هنغاريا. كلفتنا الواحدة 5 آلاف دولار، دفعناها إما من مدخراتنا أو من تبرعات السوريين في المهجر.
شعرتُ بالذنب للبقاء في رومانيا بينما السوريّون يقتلون في مواجهة النظام. لهذا فتحنا مكتبا في تركيا لنبقى قريبين من شعبنا ولتسهل عمليات الشحن لجميع أنحاء سوريا. المقاتلون داخل سوريا أخبرونا أنهم لا يريدوننا أن نقاتل، يريدوننا فقط أن نوفر لهم المعدات الهامة.
كان اهتمامنا الأول أن نوقف حمام الدم في سوريا بينما كان النظام يصبح أكثر وحشية. الثورة كانت فعلًا صحيحًا، ولم نندم على احتجاجنا ضد ممارسات النظام. لن نستسلم أبدا. سنبقى نوفر سلال الغذاء لأسر المعتقلين والشهداء. نحاول الآن الوصول إلى أهالي المناطق الساخنة التي لا يستطيع أحد أن يصل إليها.
أقابل الكثير من الناس الذين ينظرون بتشاؤم لمصير الثورة. لكنني قابلت أيضا أبا فقد أبناءه الثلاثة، سألته: «هل ندمت حين أصبح أبناؤك الثلاثة في عداد القتلى بينما النظام مازال يحكم؟». أجاب الرجل: «لا، أنا أبكي لأنني لا أملك المزيد لأقدمه لسوريا».
بعد 4 سنوات من الثورة، بعض الناس الذين اعتادوا على التبرع بألف دولار لا يستطيعون الآن إلا أن يدفعوا 200. ظننا أن النظام سينهار خلال 3 أو 4 أشهر، لهذا أنفقنا كل ما نملك بشكل مجنون ودون تخطيط.
الآن تعلمنا أن نكون أكثر تنظيمًا. التبرعات أقلّ لكنها تستخدم بشكل أفضل وتذهب للناس الأكثر احتياجًا. نحاول إنشاء مشاريع داخل سوريا لتمويل النشطاء وإيقاف الاعتماد على التبرعات الخارجية. لا نستطيع البقاء كمتسولين نطلب المال. استطعنا بالفعل بناء المعسكر الأول للنازحين داخل سوريا، في آتانا.
كنا في إدلب عام 2012، ننقل المعدات الطبية إلى مستشفى متنقل دُمّر بصاروخ مباشرة بعد أن تركناه. في كفر سجنة أصيبت سيارتنا بقذيفة، ولا أعرف كيف نجونا. أحد الأطباء الذين يعملون معنا قتل برصاص قناص. سوف نستمر في المطالبة بالحرية حتى لو لم تحقق الثورة أهدافها. أشعر أنني قد قمتُ بواجبي تجاه بلدي.
أبو الفاروق: 30 عامًا، قيادي بالجيش الحر في حلب
كنت أدير متجرًا للمواد الغذائية مع شقيقيّ في حلب، شمال سوريا. كان المتجر يدرّ علينا حوالي 2000 دولار في الشهر. لكن إنفاق الأسرة كان يصل أحيانا إلى أكثر من 3000. للحفاظ على عمل حر، عليك أن تقوم برشوة الموظفين الحكوميين باستمرار، حتى لو كانت أعمالك قانونية تماما. كنا دائما غارقين في الديون. كنت وأصدقائي نتحدث عن حاجتنا للقيام بإجراءات ضد النظام، كما فعل آخرون في تونس وليبيا. كنا بحاجة لتحسين وضعنا الاقتصادي.
حين اندلعت المظاهرات في دمشق ودرعا في مارس 2011، تمنينا أن يكون ردّ فعل النظام القيام ببعض الإصلاحات لتهدئة غضب الناس. كان هذا ليكون كافيا. لكن غطرسة النظام جعلته يستخدم العنف ضد المحتجين.
شاركت في المظاهرات في حلب مع شقيقيّ وأصدقائي، نادينا بإسقاط النظام. من المحزن أن قوات الأمن واجهت صرخاتنا المطالبة بالحرية والديمقراطية بالرصاص الحي والاعتقال. أكثر من 150 طالبا تم اعتقالهم لشهرين أو ثلاثة لكونهم نشطاء. لم تكن هناك أي محاولات من النظام للحوار وإيجاد حلول للأزمة. وجدنا أنفسنا نواجه النظام بصدور عارية وبدأنا نجمع المال لنشتري السلاح وندافع عن أنفسنا.
بدأنا عمليتنا العسكرية الأولى في الـ 15 من سبتمبر عام 2011 ضد نقطة تفتيش عسكرية في حلب. ألحقنا خسائر كبيرة بالنقطة لكن ذخيرتنا نفدت قبل تحريرها.
حينها فكرنا أن علينا تكوين جيش لإدارة سوريا بعد سقوط النظام. تشكلت بعدها العديد من الألوية تحت اسم الجيش السوري الحر. انضممتُ له، معتقدًا أن هدفنا هو بناء سوريا ليبرالية ديمقراطية، وليس سوريا طائفية.
اللواء الأول في الجيش الحر ضمّ 25 رجلا من حلب، ثم تتابع انضمام المتطوعين حتى أصبح اللواء يضم 400 مقاتلًا. استطعنا تحرير 90% من حلب في وقت قياسي، لكن قائد الجيش الحر طلب منا التوقف بينما كنا على وشك تحقيق نصر كبير، قائلا أنه سيتوقف عن إرسال الذخيرة لنا ونحن في منتصف هكذا معركة حاسمة. كان القيادي مثيرا للشكوك، وتراجعنا.
بعدها كسر بزوغ جبهة النصرة وداعش في حلب ظهرنا. ادعت النصرة أنهم جاؤوا لدعم الجيش الحر، وأنهم لا يحملون أي طموح لحكم سوريا. لكن عددًا من قيادات الجيش الحر بدؤوا في الاختفاء، ثم كنا نعثر على جثثهم في صحاري حلب. نحن الآن نقاتل جبهة النصرة، داعش، الأكراد والنظام.
إذا كرسنا جهودنا لمحاربة «داعش» وجبهة النصرة، سيسيطر النظام مجددا على الأراضي التي حررناها. لحل هذه المشكلة، عقدنا اتفاقًا مع داعش بأن نبقى خارج المناطق التي حرروها، وأن داعش لن تتقدم في مناطقنا. لكن داعش بدأت في إغراء مقاتلينا بالخطب الدينية والمال، ذهب أكثر من 10 آلاف مقاتل من الجيش الحر للانضمام إلى داعش. كان الأمر للكثير منهم اختيارا بين القتال مع داعش وكسب لقمة العيش، أو القتال مع الجيش الحر ومكابدة الجوع.
لتغطية خسائرنا من المقاتلين الذين تحولوا ضدنا، فتحنا مراكز تجنيد جديدة. أعداد المجندين الجدد جيدة حقًا، لكننا مازلنا نعاني نقص المال والأسلحة. قوتنا الأساسية الآن تتمركز في ريف حلب مع أكثر من 40 ألف مقاتل. معركتنا مع داعش هي معركة وجود.
أي هدنة مع النظام غير مقبولة بعد كل التضحيات التي قدمناها. فقدتُ أكثر من 150 مقاتلًا عرفتهم خلال السنوات الأربع الماضية. لا يزال السكان في حلب يدعموننا، والعدد الكبير من المجندين الجدد أعطانا دفعة لمواصلة نضالنا ضد النظام. يتم إخبار الناس بأن التحرير قد يستغرق 4 سنوات أخرى، وسأبقى أقاتل حتى آخر قطرة في دمي.